عالم المخدرات المظلم يحوي قصصا يندى لها جبين الوليد.. أطفال وشباب وكبار تاهوا في هذا العالم الشائك دخلوه لسبب أو لآخر وعجزوا عن الخروج منه بأنفسهم..
أرواح تاهت، علاقات تمزقت، وأحداث شائكة مؤلمة كلها فصول من حكاياتهم التي لعب فيها المخدر دور البطولة وكانوا هم الضحايا، شاركونا معاناتهم كي ينقذوا أرواحا بريئة قبل أن يغتالها الإدمان، وقبل أن يجرب آخرون طريق الهاوية..
متعافون من شر الإدمان وفي طور التعافي سردوا للبلاد حكايات إدمانهم وتعافيهم وتحديهم لهذه الآفة التي سقطوا في وحلها ورحلة معاناتهم التي لم تخلُ من الآلام الجسدية والنفسية.
(ح. ب) ذو الـ 53 عاما هو أحد المدمنين في طور الشفاء، دخل جمعية التعافي من المخدرات منذ خمسة شهور. لم تكن هذه المرة الأولى التي يدخل فيها مركزا لعلاج الإدمان، إلا أن عدم حصوله على التأهيل الكامل وثقته في نفسه بعدم العودة للمخدر دون أخذ سبل الاحتياط منه جعلاه ينتكس مرات عدة.. يروي (ح. ب) لـ “لبلاد” رحلته مع الإدمان بتوقفه عن التعاطي منذ خمسة شهور، والذي يأمل أن تكون هي المحطة الأخيرة لرحلة العذاب والإدمان التي سرقت 34 عاما من عمره قضاها في الإدمان.
من الدراسة إلى “الحشيش”
يقول “كرهت الدراسة من صغري، وأصر الأهل على إجباري عليها خارج البحرين في عمر الرابعة عشرة، فقصدت أميركا فبريطانيا ثم الهند، كل المحاولات هذه لم ترغبني بالدراسة بل أبعدتني عن أهلي وشعرت بالغربة التي أثرت فيني كثيرا وأصبحت انعزاليا وانطوائيا أخشى الجماعات وأصاب بالإرهاب منها”.
ويكمل “بعد أن استحال علي التعايش في الغربة عدت إلى الحي الذي أسكنه والمعروف بكثرة المتعاطين فيه، وتعرفت في عمر الثامنة عشرة على الحشيش صدفة، فأصررت على أصدقائي لتجربته وتبعته بالشرب ثم تلته أصناف المخدرات المختلفة.. الهيروين والحبوب وغيرها. تغيرت حياتي بعد دخولي عالم المخدرات كأني أنشد الراحة وأهرب من الواقع إلا أن الراحة أصبحت قيدا يخنقني ويعذبني”.
وأكد أن أنه خسر أهله وأصدقاءه، وابتعد عن الناس مما أصابه بالأمراض النفسية، وقال “الاكتئاب الذي رافقني طويلا لم يخمد فيّ المشاعر السلبية والغضب على كل من حولي”. مردفا “لم أرغب بالابتعاد عن المخدرات حينها لأن فيها مهربا من واقع مؤلم وصلت إليه.. لم يمنعني من التعاطي شيء حتى تلك السنوات التي قضيتها في السجن نتيجة تراكم القضايا عليّ، فكان دخول السجن على مرارته أمراً متكرراً، أما أمر حصولي على المخدرات داخل السجن فكان هينا جدا، ولم يكن السجن يوقفني عن التعاطي”.
ويعود بذاكرته للوراء فيقول “أذكر أني خرجت من السجن في إحدى المرات لأجد نفسي دون مأوى، حيث باع إخوتي المنزل وتركوه جميعهم حتى والدتي المريضة.. بقيتُ فيه وحيدا.. بيت كبير فارغ إلا من المخدرات، صدمت من خسارتي للجدران التي تخفي ألمي وتستر تعاطيّ، وهذا ما دفعني إلى بيع المخدرات لأؤمن مسكنا ومأكلا.. أردت أن أعيش حينها فقط، ولو أردت أن أتاجر للربح لأصبحت مليونيرا، رغبت فقط بالمخدر لأسكن وجع نفسي.
ويتابع “نوبات الاكتئاب والضيق كان تبعدني عن الناس وبقيت حبيس أربعة جدران لأشهر طويلة لم أقابل فيها أحدا ولم أرد أن أرى أي بشر، حتى المخدرات كانت تصلني لمكاني، هذا الشعور القاسي لا يعرفه إلا من ابتلي به”. مكملا “دخلت مرات كثيرة للمستشفى لعلاج الإدمان إلا أنني كنت أنتظر اليوم الذي أخرج فيه وكثيرا ما كنت أتعاطى المخدر أمام باب المركز وقبل أن أتحرك لأي مكان، كل الأمور حولي كانت مهيأة لعودتي للمخدرات، ألمي وحزني وخسارتي لكل شي.. يعيدني بكل قوة للإدمان وبشراهة أردت التخلص من واقع أوقعت نفسي فيه”.
وفاة والدتي أعادتني لصوابي من التعاطي
خليل.ع (47 عاما).. متعافٍ من الإدمان منذ أكثر من عام. حاليا هو أحد المقيمين في السكن التأهيلي لجمعية التعافي منذ خمسة شهور. دخل خليل عالم الإدمان في سن 14 عاما.. كان ينشد الرجولة وتقمص شخصية لا تشبهه فتعرف على “شلة” سوء في ذات الحي الذي يسكنه والمشهورين بإدمانهم، فقلدهم بشم الغراء فتبعه إلى الحشيش والخمر ثم الهيروين والحبوب وانتهى بالإبر المخدرة ورصيد كبير من القضايا وسنوات السجن.
يقول خليل “لم أكمل دراستي وأحببت عالم الرجولة الذي زين لي التعاطي وأكملت فيه على الرغم من المشاكل التي وقعت فيها وترددي على السجن، ولا يكون تعاطي المخدر هو نهاية الطريق، فهو يدفعك للتلاعب والاحتيال على القانون، يغيب عقلك لترتكب الجريمة تلو الأخرى فكلما تعمقت في وحل الإدمان تلاحقك المشاكل والقضايا”.
ويتابع “قضيت في الإدمان عمرا، فرحل والداي وتزوج كل إخوتي وأخواتي، وكل أصدقائي فتحوا بيوتا وتزوجوا وأنجبوا وأنا لم أحقق شيئا، وحدي بقيت أعاني مع الإدمان، ولأنه يخدر كل مشاعري ويقتلها كان وسيلتي للهروب من المشاكل التي أقحمت نفسي بها، فبدلا من التوقف والتراجع لأعود بشراهة للمخدر كي أغيب عن الوعي فلا أشعر بالألم، فكلما تعمقت في هذا العالم كان الظلام أحلك والخروج منه أصعب”.
ويكمل خليل “أنا اليوم متعافٍ تماما وأتبع قاعدة (افضح المشكلة قبل أن تفضحني) لأتجاوز الأزمات والأفكار والذكريات السلبية التي خلفتها سنين الإدمان، فأحاور المعالجين وأتناقش مع المتعافين الذين سبقوني، أنا الذي أملك منزلا خاصا بي أتشارك وآخر غرفة في سكن التعافي؛ لأنني لا أريد أن فتح مجالا للعودة إلى الخلف، ولأنني عازم على الانتصار على المخدرات”. متابعا “اليوم بعد أن وقفت على أسباب وصولي إلى الإدمان أصر على البقاء في السكن بإرادتي وأتواصل مع أهلي الذين دفعت فاتورة خسارتهم لأعود لأحضانهم وأكتسب ثقتهم من جديد.. أنا الذي وعدتهم كثيرا قررت ألا أخذلهم مجددا واستطعت”.
أول شهادة
المتعافية أم نوف: المخدرات أفقدتني حضانة ابنتي
للمتعافية أم نوف (34عاما) قصة أخرى في هذا العالم المظلم الذي خسرت فيه الكثير وربما الأقسى على قلبها خسارتها لحضانة ابنتها ذات الـ 13 عاما.. دخلت أم نوف الإدمان من باب الحرية التي كانت تنشدها، فبعد حملها للقب مطلقة عادت إلى حضن والدتها التي تبعتها وتطلقت، فدخلت الأسرة في حالة من التشتت والتفكك والمشاكل وربما كان الإحساس بالضياع هو الذي دفعها إلى البحث في بيئة غير بيئتها المتحفظة جدا والتي لا تتهاون في أبسط الأمور، فهي لم تكن تعرف إلا دراستها وبيتها.
ساعة انتكاسة
وتكمل “لحظة ضعف وساعة تعاطٍ واحدة غيرت كل حياتي، بعد انتكاسة واحدة طيلة هذه الفترة تعاطيت المخدر لمدة ساعة واحدة لتضبطني دورية الشرطة وتدخلني السجن على إثرها ولأحكم بالسجن لمدة شهر هي الإشارة الثالثة لي، ولأنني منتمية لجمعية التعافي خفف الحكم من السجن شهر إلى العمل في أحد المراكز الاجتماعية، وهذه الحادثة التي خسرت بسببها حضانة ابنتي، فقد استغلها طليقي ضدي في المحكمة لتسقط حضانة ابنتي مني، بعد هذه الحادثة لم أعد للمخدرات منذ أربعة أعوام تقريبا. وتتابع “ولأنه درب مظلم تذوقت فيه أنواع الخسارة وخسرت نفسي وضِعت في عالم الإدمان الذي بقيت فيه سبعة أعوام وسرق مستقبلي، وخسرت دراستي في الطب كما خسرت بعده وظيفة كنت أعتمد عليها، وخسرت أهلي وابنتي التي هي كل ما أملك في حياتي، قصتي المليئة بالأحداث والمشاعر المؤلمة والمحزنة، بكل فصولها كنت لوحدي فبُعد الأهل عني قبل وبعد إدماني وحتى بعد التعافي ألمه شديد، ولكنه طريق الإدمان الذي يسلب كل شيء.. أم نوف اليوم هي على رأس برنامج توعية لطالبات المدارس بخطورة المخدرات، متطوعة في هذا المجال تحمل رسالة لتوعية المراهقات من الأبواب التي تودي للتعاطي. وتشاركنا قصتها مع الإدمان؛ لأنها اليوم تدفع الثمن ولأنها تؤمن أنها أقوى ولا مجال للرجوع إلى ذلك الدرب، مؤكدة أن الأسرة التي تنشأ أبناءها على الممنوع دون شرح أو توعية، دون صداقة وتقرب، يلجا أبناؤها إلى التمرد ويدفع البعض روحه ثمنا لأخطاء الآباء.
رابط المقال بجريدة البلاد www.albiladpress.com/article290587-1.html